سيف من أقحوان - الحلقة الثانية
"إنه ليس مجرد وشم، أليس كذلك؟" همست سوسن، وكأنها تخشى أن تسمع الإجابة. نظر إليها طويلًا، ثم تنهد، وكأنه قد اتخذ قرارًا داخليًا. "ليس هنا. تعالي”. قادها إلى كوخ صغير على أطراف القرية، حيث لا يسمعهما أحد. دخل وأشعل مصباحًا زيتياً، ليكشف عن مجموعة من الخناجر والخرائط وبعض الوثائق القديمة. كل شيء في المكان كان يشير إلى أن رازي ليس رجلًا عاديًا، بل شخصًا يحمل ماضياً أكبر من مجرد مسافر ضائع. جلس أمامها وقال بصوت هادئ، لكنّه كان يحمل شيئًا يشبه الثقل: "ما سأقوله لكِ قد يغيّر كل شيء”. ترددت للحظة ثم قالت بثبات: "أريد أن أعرف الحقيقة”. مرر يده على الوشم، كأنه يلمس ذكرى قديمة، ثم قال: "هذا ليس مجرد وشم. إنه رمز لانتمائي إلى جماعة كانت ذات يوم سرّية. تُدعى 'حماة الظلال'“. شعرت بقشعريرة تسري في جسدها. سمعت بهذا الاسم من قبل، كانوا أسطورة تُحكى عن رجال اختفوا في الظلال، يحاربون من أجل قضية مجهولة، ويعملون بسرية تامة، حتى أن البعض يظن أنهم لم يكونوا أكثر من خرافة.
"لكنهم اختفوا منذ سنوات. تمتمت، محاولة استيعاب الأمر.
"ليس تمامًا”. قال رازي، ونظر إليها بعينين لم تكن فيهما أي مجاملة. "وأنا واحد منهم.
ساد الصمت، لكنه لم يكن صمتًا عاديًا. بل صمتًا يسبق العاصفة.
كان الفجر بالكاد قد لامس الأفق حين دوّت أصوات الخيول القادمة من الغرب، مخترقة الطرقات الوعرة نحو قرية سوسن. وقف الحراس عند بوابة القرية، مستنفرين، وأيديهم على مقابض سيوفهم، قبل أن يدركوا أن القادمين ليسوا غزاة بل رسل يحملون أخبارًا. وأخبارًا ثقيلة. تجمّع الأهالي في الساحة، بينما وقف الشيخ داوود بجوار ابنته سوسن، ووجهه يحمل قلقًا واضحًا. ترجل أحد الرسل من جواده، وتقدّم بخطوات متسارعة نحو الشيخ، ثم انحنى قليلاً احترامًا قبل أن يقول بصوت متوتر: "الصليبيون يقتربون من سواحل الشام، وقد نزلوا بالفعل في بعض المواقع القريبة. المدن الكبرى بدأت تستعد للحرب، والأمراء يرسلون نداءاتٍ للاستنفار والتعبئة”. ساد صمت ثقيل في المكان، ولم يكن يسمع سوى أنفاس القرويين المضطربة. البعض تجمّد في مكانه، والبعض الآخر بدأ يهمس لنفسه، وكأن إدراك الخطر لم يصل إليهم بالكامل بعد. أما رازي، الذي يقف في ظل إحدى الأشجار، فقد انقبضت أصابعه ببطء حول مقبض خنجره. لم تكن هذه الأخبار مفاجئة له، بل كان يتوقعها منذ فترة. لقد قرأ العلامات في تحركات التجار، في رسائل القادة السريّة، في القلق الذي بدأ ينتشر في الأسواق كما ينتشر المرض. لكنه الآن، وهو يسمع الخبر بصوت مسموع أمام الجميع، أدرك أن اللحظة التي كان يخشاها قد اقتربت. تقدّم الأمير عز الدين، الذي كان حاضرًا بصفته ممثلًا عن السلطة المحلية، وسأل بصرامة: "ما مدى حجم قوتهم؟ وكم تبقّى من الوقت قبل أن يصلوا إلى حدودنا؟ أجابه الرسول: "الطلائع وصلت إلى الساحل الجنوبي، والتحركات تشير إلى أنهم يتجهون شمالًا. ربما أيام، وربما أسابيع، لكن لا شك أنهم قادمون”. نظر عز الدين إلى الشيخ داوود، ثم إلى أهل القرية وقال بصوت واضح، وكأنه يعلن بداية عهد جديد: "هذا ليس وقت التردد. سنبدأ في تحصين الطرق، وإرسال الرجال للانضمام إلى الجيوش التي تتأهب. لن نسمح لهم بأن يدنسوا أرضنا”. كان الجميع ينتظر ردّ الشيخ داوود، فتنحنح الرجل العجوز وقال بحزم: "سنبعث برجالنا إلى الأمير، وسنعدّ العدة. لكنني أحذرك، يا عز الدين. الحرب ليست مجرد سيوف، بل عقول. لا يجب أن ندخلها دون استراتيجية واضحة”. راقب رازي المشهد بصمت، لكن عينيه التقتا بعيني سوسن للحظة، ورأى فيهما قلقًا لم يكن موجودًا من قبل. لم تكن تخشى الحرب فقط، بل تخشى ما قد تجرّه معها. اقتربت منه بعد أن تفرّق الحشد قليلاً، وهمست: "هذه الحرب. ماذا تعني لك؟". نظر إليها للحظة طويلة، ثم قال بصوت منخفض لكنه كان يحمل نارًا خفية: "تعني أن الماضي لن يبقى مدفونًا بعد الآن”. ثمّة شيء في نبرته جعل قلبها ينبض بخوف لم تفهمه تمامًا، لكنه كان أشبه بإنذار. إنذار بأن القادم لن يكون سهلًا.