سيف من أقحوان - الحلقة الرابعة

قيود القدر
كان الليل قد أرخى ستائره على قرية سوسن، لكنه لم يحمل معه الهدوء المعتاد. كانت المشاعل تضيء الساحة الرئيسية، حيث اجتمع الشيخ داوود ووجهاء القرية في مجلس طارئ. جلس الجميع في حلقة ضيقة، وأعينهم متجهة إلى الرجل المسن الذي بدا وكأنه يحمل جبالًا من الهموم على كتفيه. تنحنح الأمير عز الدين، ثم قال بصوت حازم: "الحرب على الأبواب، والتحالفات هي سلاحنا الأول قبل أن تُستل السيوف. زواجي من سوسن سيضمن حماية قريتكم، وسيوحّدنا تحت راية واحدة في مواجهة الصليبيين”. كان حديثه منطقيًا، بل لا مفرّ منه، لكن قلب الشيخ داوود كان يضطرب، إذ يعلم أن ابنته لم تكن راغبة في هذا الزواج. ومع ذلك، لم يكن أمامه خيار. أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال بصوت متردد لكنه ثابت.
"الأمير عز الدين محق… هذه الحرب ستغير كل شيء، ولا بد أن نؤمن مستقبلنا. زواج سوسن سيتم في نهاية الأسبوع".
ساد الصمت بين الحاضرين، ثم أومأ الجميع بالموافقة، بينما كان الشيخ داوود يتجنب النظر في عيني ابنته، التي كانت تقف عند باب المجلس، تسترق السمع دون أن يراها أحد. عادت سوسن إلى غرفتها بخطوات متثاقلة، ويدها ترتجف على مقبض الباب. لم يكن القرار مفاجئًا لها، لكنها كانت تأمل حتى آخر لحظة أن يجد والدها مخرجًا آخر. في تلك الليلة، لم تستطع النوم. كانت أفكارها تتصارع، وكأنها وقعت في شَرَك لا تستطيع الفرار منه. لكنها لم تكن الوحيدة التي شعرت بذلك.
  بين فكي الظلم.
كان رازي واقفًا عند سور القرية، ينظر إلى النجوم البعيدة، وكأنها تحمل له إجابة لم يجدها بعد. علم بالأمر من بعض الرجال، ولم يكن بحاجة إلى سماع المزيد. كان يدرك منذ البداية أن مصيره لم يكن هنا، وأن هذه القرية لم تكن إلا محطة في رحلته، لكنه لم يتوقع أن يكون رحيله بهذا الطعم المرّ. سمع خطوات تقترب منه، فالتفت ليجد سوسن تقف هناك، وشعرها ينساب على كتفيها كليلٍ بلا قمر.
قالت بصوت هادئ لكنه كان يحمل عاصفة مكبوتة: "هل سمعت؟" أومأ رازي بصمت، ثم نظر بعيدًا مجددًا. اقتربت منه أكثر، وكأنها تحاول أن تقرأ ما يخفيه وجهه، ثم همست: "قل لي، هل كنت ستبقى لو لم يحدث هذا؟" ظل صامتًا للحظات، ثم أجاب أخيرًا، بصوت منخفض كأنه يخشى أن يسمع هو نفسه الحقيقة: "ما كنت لأرحل”.
كان جوابًا بسيطًا، لكنه حمل أكثر مما توقعت. شعرت بشيء ينهار داخلها، لكنها لم تملك ترف الاعتراف به. نظرت إليه طويلًا قبل أن تقول بابتسامة حزينة: "إذن، فات الأوان”. استدار رازي ليواجهها، لكن قبل أن ينطق بكلمة، تراجعت خطوة إلى الوراء وقالت بحزم: "وداعًا يا رازي. أتمنى لو التقينا في زمن آخر”. ثم استدارت ورحلت، تاركة خلفها رجلًا لم يعرف يومًا كيف يخسر، لكنه هذه المرة شعر أنه فقد كل شيء.
كانت قرية سوسن في حالة غير طبيعية، كأنها تترقب عاصفة وشيكة. الجميع مشغولون بالتحضير لحفل زفاف الأمير عز الدين وسوسن، لكن خلف الأبواب المغلقة، كانت الألسنة تلهج باسم واحد: رازي.
في فجر أحد الأيام، اجتمع عدد من وجهاء القرية أمام دار الشيخ داوود، يطالبون بمحاكمة رازي. وقف مروان، الذي لطالما شكّ في الغريب، وقال بصوت قاطع: "لقد حذرناكم منه! هذا الرجل ليس كما يدّعي، وقد ثبتت خيانته”. رفع الشيخ داوود حاجبيه بدهشة: "ما الذي تقصده؟" ألقى مروان بكيس من الجلد على الطاولة، وحين فُتح، تناثرت منه قطع ذهبية مختومة بختم الصليبيين. همس الحاضرون بقلق، وقطب الشيخ داوود جبينه. "وجدنا هذا في كوخ رازي، إلى جانب رسالة مشفرة. هل لديك تفسير لهذا، أيها الغريب؟" كان رازي واقفًا بينهم، صامتًا، لا أثر للخوف في وجهه. نظر إلى القطع الذهبية ثم إلى مروان، وقال بصوت هادئ "هذه ليست إلا خدعة”.
قهقه مروان ساخرًا: "بالطبع! كل خائن يقول هذا حين يُكشف أمره”.
تدخل الأمير عز الدين، الذي كان يراقب الموقف بصمت حتى الآن، وقال بحزم: "هذه التهمة خطيرة. ولا يمكننا المجازفة. سيتم تسليمه إلى حاكم المدينة ليحكم في أمره”.
اتسعت عينا سوسن بالذهول، وقبل أن تعترض، أمسك والدها بيدها برفق، وهزّ رأسه وكأنه يقول لها "لا فائدة، خذوه إلى السجن حتى الغد، ثم سنرسله إلى الحاكم”.
لم يقاوم رازي، لكنه ألقى نظرة واحدة على سوسن، نظرة أخيرة، قبل أن يقوده الحراس بعيدًا.