سيف من أقحوان

الحلقة الأولى
دراما تاريخية لأنطوان فضّول تعود إلى فترة تاريخية غنية بالأحداث في لبنان، حيث كان خاضعًا لحكم الدولة الفاطمية، متأثرًا بالحملات الصليبية التي بدأت عام 1099. خلال هذه الحقبة شهدت المنطقة صراعات بين القوى المحلية والفاطميين والصليبيين والسلاجقة، مما يوفر خلفية لرواية رومانسية يمتزج فيها الحب بالمغامرة والصراع الثقافي.
الفكرة الأساسية.
في ظل الاضطرابات التي تشهدها بلاد الشام، تنشأ قصة حب بين سوسن، فتاة من عائلة محلية عريقة، ورازي، الرجل الغريب الذي يدخل إلى حياتها ليغير مصيرها ومصيره. لكن المجتمع المغلق، والمخاطر السياسية، والأسرار التي يحملها كل منهما، تجعل هذا الحب مستحيلًا، أو ربما مصيريًا.
سوسن: فتاة لبنانية في العشرينيات، من أسرة عريقة تمتلك أراضي زراعية في جبال لبنان. لديها شخصية قوية، متعلمة بفضل البعثات الفاطمية، وتتميز بحبها للحرية والتحدي.
رازي: رجل غامض، أصوله غير واضحة، لكنه يتحدث العربية بطلاقة وله معرفة واسعة بالعلوم والسحر والتكتيكات العسكرية. يقال إنه فارسي الأصل، وربما يكون جاسوسًا أو محاربًا سابقًا فر من جيشه.
الأب الشيخ داوود: والد سوسن، رجل محافظ يسعى لتحالفات قوية مع الفاطميين لضمان حماية أراضيه.
الأمير عز الدين: زعيم محلي طامح، يريد الزواج من سوسن كجزء من تحالف سياسي.
الحكيم أبي الفرج: رجل علم وحكمة، صديق العائلة، يلعب دورًا في كشف أسرار رازي.
الوافد الغريب.
تغلغل الليل بين أزقة القرية الصغيرة، وانسابت نسمات باردة بين الأشجار التي تراقصت تحت ضوء القمر الشاحب. وقف رازي عند مشارف قرية سوسن، عيناه تتفحصان البيوت الحجرية المتناثرة، وصوت حوافر حصانه المتعب يتلاشى في السكون المطبق. كانت رحلته طويلة، طرق وعرة قادته إلى هنا، حيث لا يعرف أحدًا ولم يكن يريد أن يُعرف.
في بداية الشارع الرئيسي، لمح عيونًا تحدق فيه من خلف النوافذ، همسات خافتة تتردد بين الجدران، وأبواب تُغلق بحذر. لم يكن هذا المشهد مفاجئًا، فهو غريب هنا، والغريب في القرى الصغيرة إما عابر سبيل أو جاسوس.
اقترب من بئر وسط الساحة، وألقى بنفسه على حجر مجاور. نظر إلى انعكاس وجهه في الماء المتماوج، فوجد فيه أثر الأيام التي حاول أن يهرب منها.
"لا تبدو من أهل هذه القرية”.
رفع رأسه ليجد فتاة تقف على مقربة منه، تحمل بيدها سلة صغيرة مليئة بأعشاب برية. نظرتها مزيج غريب من الفضول والحذر، كأنها تحاول أن تقرأ قصته قبل أن ينطق بها.
"أنا رازي”.
قال بصوت أجش، ثم أضاف بعد تردد: "مجرد مسافر يبحث عن مأوى”.
أمالت رأسها قليلاً، كأنها تزن كلماته: "المسافرون عادة لا يصلون إلى سوسن، فهي ليست على طريق أحد”.
لم يُجِب، بل اكتفى بمراقبة تعابيرها. بدا له أنها تعرف أكثر مما تقول، أو ربما تشعر بما يخفيه: "اسمي سوسن”.
قالت، ومدت يدها بعفوية قبل أن تتردد وتسحبها ببطء، كأنها أدركت فجأة أنها لا تثق به تمامًا.
أومأ برأسه، ثم وقف بتثاقل، متأهبًا للمغادرة. لكن قبل أن يبتعد، سمع صوتها مجددًا: "إن كنت تبحث عن مأوى، فالنُزل الوحيد هنا تديره أم سمير، لكنها لا تحب الغرباء”. ابتسم نصف ابتسامة، وقال بصوت خافت: "لا أحد يحب الغرباء، لكنهم دائمًا يجدون طريقهم”.
راقبته وهو يبتعد نحو النُزل، متوارياً في الظلام، بينما بقيت هي واقفة عند البئر، تتساءل إن كان هذا الرجل مجرد مسافر، أم أن في قدومه إلى قريتها ما هو أبعد من ذلك.
اختبار النار.
بالكاد أرسل الفجر خيوطه الأولى حين انطلقت قافلة الصيد من قرية سوسن، يقودها الشيخ داوود، والد سوسن، ومعه مجموعة من رجال القرية المسلحين بالرماح والأقواس. الرياح تحمل معها رائحة الطين المبلل، وصوت حوافر الخيول يتردد في الغابة المحيطة. لم يكن رازي بينهم، لكن خطاه الثقيلة تبعتهم بصمت، كما لو أن قدميه تعرفان طريقًا لا يحتاج للسؤال عنه. لم يكن أحد من رجال القرية يثق به بعد، لكنه لم يكن من أولئك الذين ينتظرون ثقة الآخرين، بل يأخذها حيث يجد الفرصة. حين وصل الصيادون إلى تخوم النهر، انتشر الرجال في مواقعهم، وتقدم الشيخ داوود بحذر، يبحث عن غزال أو أرنب بري. لكنه لم يكن يعلم أن العيون تراقبه من بين الأشجار، عيونٌ لم تكن عيون وحوش الغابة.
"كمين!" كانت صرخة رازي أول ما كسر سكون الصباح، قبل أن يندفع جسده كالسهم، رامياً بنفسه نحو الشيخ داوود، ليطرحه أرضًا قبل أن تخترق سهام مجهولة الهواء فوق رأسه. دوّى صوت النبال وهي تصطدم بالأشجار، بينما انطلق رجال القرية إلى مواقع القتال. انقض رازي على أحد المهاجمين، سحب خنجره بسرعة، وأرداه بضربة واحدة في عنقه، ثم استدار ليجد اثنين آخرين يهاجمانه. تفادى الأول بمهارة، ووجه له ضربة بمقبض خنجره، بينما أسقط الثاني بضربة سريعة من سيف كان قد استولى عليه قبل لحظات. في غضون دقائق، إنتهى الكمين، وفرّ من تبقى من المهاجمين في عمق الغابة، تاركين خلفهم قتلاهم وأسلحتهم. نهض الشيخ داوود بصعوبة، متفحصًا الرجل الذي وقف أمامه، وهو يلهث من المعركة. عيناه تبحثان عن شيء ما في ملامح رازي، شيئًا لم يكن هناك قبل لحظات.
"أنقذت حياتي، أيها الغريب”.
مسح رازي الدم عن خنجره، ورد بهدوء: "الغريب لا يبقى غريبًا حين يمتزج دمه بدم أهل المكان.
إسمي رازي".
نظر إليه الشيخ داوود طويلًا، ثم أدار وجهه نحو رجال القرية الذين يراقبون المشهد بذهول.
ثم قال بصوتٍ حازم: "يبدو أن القدر أرسلك إلينا لسبب”.
ثم التفت إلى بقية الرجال، وأضاف بصوت لم يخلُ من نبرة الاحترام: "من اليوم، رازي ليس غريبًا بيننا”.
نظرت سوسن إلى والدها، ثم إلى رازي، ولم تقل شيئًا. لكن في عينيها، لأول مرة، لم يكن الحذر. بل تساؤل جديد، ربما لم تجد له إجابة بعد.
بين الظلال والضوء.
مرّت الأيام، وتحول رازي من غريب إلى فرد مقبول في قرية سوسن، وإن لم يكن الانتماء أمرًا يُمنح بسهولة. بدأ يعمل مع الرجال، يشارك في الصيد، ويساعد في الحراسة، لكنه يحتفظ دائمًا بجزء من نفسه بعيدًا عن الآخرين، كما لو أن هناك جدارًا خفيًا لا يسمح لأحد بتجاوزه. أما سوسن، فقد وجدت نفسها مدفوعة بفضول لم تعهده من قبل. كانت تراقبه وهو يتحدث مع والدها، وتراه يُعلم الصبية كيف يربطون عقد الصيد بإحكام، وتسمعه أحيانًا يتمتم بكلمات بلغة لم تفهمها. لم يكن يشبه رجال القرية، لا في طريقته، ولا في نظرته العميقة التي تبدو وكأنها تحمل أسرارًا لا تُقال. في إحدى الأمسيات، وبينما كانت تغرب الشمس بلونها الذهبي، وجدت نفسها تسير نحوه عند البئر، حيث جالس يشحذ سكينه بعناية. ترددت للحظة، لكنها تحدثت أخيرًا: "أنت تعرف الكثير عن القتال والصيد. ولكنك لست صيادًا". لم يرفع نظره، بل استمر في شحذ السكين، ثم قال بصوت هادئ: "ولا أنتِ مجرد فتاة من هذه القرية". قطبت حاجبيها، غير متأكدة مما يقصده.
"أنا سوسن، ابنة الشيخ داوود، وكفى”.
ابتسم رازي ابتسامة خفيفة، لكنها لم تصل إلى عينيه.
"إذن، لماذا تسألين؟".
كانت إجابته استفزازية، لكنها لم تغضب. على العكس، شعرت برغبة أكبر في كشف الغموض الذي يحيط به. جلست على الحافة المقابلة للبئر، ووضعت سلة الأعشاب التي كانت تحملها جانبًا.
"أنت لست من هنا، ولست مجرد مسافر ضائع كما تقول. نظراتك تخفي شيئًا، ووالدي قد يثق بك الآن، لكنني لا أصدق أنك جئت بلا سبب”.
أخيرًا، توقف عن شحذ السكين، ونظر إليها مباشرة، بعينين هادئتين لكنهما تحملان شيئًا أعمق.
"وهل تظنين أنني قد أمثل خطرًا عليكم؟
صمتت، ثم قالت بصوت خافت، يكاد يكون اعترافًا: "لا”.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه، وأعاد السكين إلى غمده.
"إذن، لا يهم الماضي. أليس كذلك؟" نظرت إليه طويلًا، ثم وقفت، والتقطت سلتها. "ربما”. ثم أضافت وهي تبتعد: "لكنني سأكتشفه يومًا ما”.
راقبها وهي تبتعد بين الأشجار، ولم يقل شيئًا.
كان يعلم أنها ستعود بأسئلتها، وكان يعلم أيضًا أنه كلما اقتربت، ستجد الحقيقة أكثر تعقيدًا مما تظن.
بين القلب والواجب.
في قلب قرية سوسن، حيث تجتمع العائلات في الساحة تحت ضوء المشاعل، وقف الأمير عز الدين بخطى ثابتة، تحيط به حاشيته، وعيناه تحملان نظرة رجل اعتاد أن يُلبى طلبه دون نقاش.
كان طويل القامة، بملامح صارمة، ورداء من الحرير الأزرق المطرّز بخيوط الذهب، يدل على مكانته العالية. يترقب الجميع كلماته، لكن حين نطق، جاء صوته أشبه بمرسوم لا رجعة فيه: "جئت لأطلب يد سوسن ابنة الشيخ داوود للزواج”.
ساد الصمت بين الحاضرين، ثم بدأت الهمسات تتردد كالموج بين الجموع. سوسن؟ زوجة الأمير؟ كان ذلك شرفًا عظيمًا، ومصيرًا لم تحلم به أي فتاة في القرية.
أما سوسن نفسها، فكانت واقفة بجوار والدها، تحاول أن تستوعب وقع الكلمات التي أُلقيت أمامها كقيد من حرير. لم ترفع عينيها، لكنها شعرت بثقل النظرات المسلطة عليها، كأن الجميع ينتظرون ردها، رغم أن الرد لم يكن لها وحدها.
"شرف لنا أن ينال بيتنا رضاك، أيها الأمير”.
تحدث الشيخ داوود بحذر، وعيناه تراقبان ابنته، لكن صوته لم يحمل الحماسة التي توقّعها الناس. "لكن القرار ليس لي وحدي”.
كان ذلك كافياً ليجعل عز الدين يحول بصره نحو سوسن مباشرة. كان معتادًا على النساء اللواتي ينظرن إليه بانبهار، لكن في عينيها لم يكن هناك انبهار. بل شيء آخر، شيء أقرب إلى التحدي الخفي.
"ما رأيكِ، سوسن؟"
رفعت رأسها أخيرًا، وأجابت بصوت ثابت، وإن كان يخفي اضطرابًا لم تظهره ملامحها: "الأمر مفاجئ، يا مولاي”.
"الحياة مليئة بالمفاجآت،" قال بابتسامة واثقة. "لكنني أؤمن أنني أستطيع أن أهبك حياة تليق بكِ”.
كانت كلماته مختارة بعناية، لا تخلو من سلطة، لكنها لم تكن قادرة على اختراق الحيرة التي استوطنت عقلها. لم يكن العرض سيئًا، بل كان خيارًا يحلم به الكثيرون. فلماذا شعرت أن هذا الخيار لا يناسبها.
في طرف الساحة، بعيدًا عن دائرة الضوء، يراقب رازي يراقب المشهد بصمت، عاقدًا ذراعيه، وعيناه تحملان شيئًا لا يمكن قراءته بسهولة. لم يكن من النوع الذي يُظهر مشاعره، لكنه شعر بشيء أشبه بطعنة باردة حين سمع كلمات الأمير.
سوسن، زوجة الأمير؟ هل كان هذا مصيرها.
أدار عز الدين وجهه نحو الشيخ داوود وقال بثقة: "سأعود بعد ثلاثة أيام لأسمع ردكم. أتوقع أن يكون الرد مشرفًا”. ثم استدار، وغادر مع حاشيته، تاركًا خلفه قرية غارقة في الدهشة، وفتاة تقف بين نارين، وقلبًا في الظل، لم يدرك بعد إن كان مستعدًا للقتال.
علامة السرّ
أرخى الليل سدوله على قرية سوسن، والنجوم تلألأت في السماء كأنها تراقب الأرض بصمت.
بعد إعلان الأمير عز الدين رغبته في خطبة سوسن، أصبحت القرية تعيش في حالة من الترقب، لكن شيئًا آخر كان يشغل فكر سوسن أكثر من مصيرها المنتظر.
رازي منذ قدومه، كان يحمل هالة من الغموض، لكن اليوم، بدا أكثر انعزالًا، وكأن هناك عاصفة صامتة تدور في داخله. لم تتجاهل نظراته حين غادر عز الدين، نظرات لم تكن مجرد اهتمام عابر، بل كانت تحمل معنى لم تستطع تفسيره بعد. لم تستطع مقاومة فضولها أكثر، فذهبت تبحث عنه. وجدته عند النهر، جالسًا تحت شجرة ضخمة، ثيابه نصف مبتلة، وكأنه كان يغسل شيئًا. اقتربت بحذر، لكنها توقفت فجأة عندما رأت ما لم يكن يجب أن تراه.
على كتفه، تحت ضوء القمر، وشم غامض، رمز لم يكن يشبه أي وشم رأته من قبل، عبارة عن سيف يلتف حوله غصن أقحوان، مرسومًا بدقة وكأنه يحمل سرًا قديمًا. شهقت دون أن تشعر، فانتفض رازي والتفت نحوها، عيناه اشتعلتا بحدة لوهلة قبل أن يعود إلى هدوئه المعتاد.
"لم يكن عليكِ أن تري هذا”.
قال بصوت منخفض، لكنّه لم يكن غاضبًا. بل كان أقرب إلى الحذر.
تقدّمت خطوة، عيناها مثبتتان على العلامة. "ما هذا؟".
لم يُجب، بل اكتفى بمسح الماء عن كتفه وسحب قميصه ليغطيه، لكن الصمت كان أثقل من أن يُترك دون تفسير.